jeudi 25 octobre 2007

كثر الهم يضحك

شدني هذا النص للروائي حسن بن عثمان لما فيه من واقعية في الوصف ورغبة في التحليل وخاصة لما فيه من أسلوب روائي ساخر ذكرني بكتابات بن عثمان في روايتيه الأخيرتين ًبرومسبورً وُ شيخانً صاحب شخصية عباس لم يفقد صوابه و كتب نصا في شكل شهادة تداخل فيهاالذاتي بالصحفي لوصف نكبة لفيضانات الأخيرة

الفيضانات التونسية: سقف بيتي حديد... ركن بيتي حجر! طباعة ارسال لصديق
حسن بن عثمان


كان الحدث الذي شغل الناس في تونس خلال هذه الفترة الأمطار الفيضانية التي اجتاحت البلاد في اليوم الثاني من أيام عيد الفطر مخلفة عديد الضحايا البشرية والخسائر المادية وهلعا وترويعا للكثير من الأهالي التي كانت مناطقهم عرضة للطوفان.

اختلفت تقديرات وسائل الإعلام في تحديد عدد القتلى من ثلاث عشرة وفاة إلى خمسين قتيلا، حسب بعض جرائد المعارضة، قتلى غمرتهم المياه الصاخبة الكاسحة وجرفتهم في اجتياحها الهادر في لمح البصر. فجأة انقضت السماء على الأرض في مدينة تونس وخصوصا في ولاية (محافظة) أريانة وأطبقت بمياهها الغدّارة ووحلها القاتل على من صادفها من سيئي الحظ، وكان أغلب الموتى في "سبالة بن عمار" التي تقع على الطريق الرابطة بين مدينة تونس وولاية بنزرت، وهي منطقة منخفضة محاطة بالمرتفعات والجبال.

أما مدينة أريانة فتقع في الضّاحية الشّمالية للعاصمة تونس، وهي على منبسط من الأرض بعد هضاب البلفدير ورمّانة ورأس الطّابية والمنار. ويبلغ هذا المنبسط أثني عشر كيلومتر طولا وستة كيلومترات عرضا. ويحدّه من الجهة الشمالية جبل النّحلي (200 متر على مستوى البحر). وتمسح كامل منطقة أريانة قرابة ألفي هكتار تمثل في جلها مساحة فلاحيّة تبدّلت بحكم الضغط السكاني في العاصمة إلى أحياء سكنية جعلت من بلدية أريانة ثالث بلديات الجمهورية من حيث الكثافة السكانية. ينتهي هذا المنبسط شمالا بسبخة أريانة وتفصلها عن البحر بروّاد كثبان رملية، يغمرها طمي نهر مجردة في السنوات الممطرة. كما يلتصق جنوبا ببحيرة تونس على مستوى منطقتي الشرقية والعوينة، وشرقا يقترن بهضاب قمّرت وجبل المنار وهضبة بيرسة وقرطاج. وموقعها المنبسط هذا يجعل من بعض مناطقها عرضة للغرق كلما هطلت الأمطار بكميات هائلة. لذلك كان يتعيّن اتخاذ الاحتياطات اللازمة من بنية تحتية تتناسب مع بيئة المكان ومن شبكة قنوات لاستقبال المياه وتصريفها ومن سدود وإجراءات حماية.

غير بعيد عن مدينة أريانة يروى لنا الصحفي كمال بن يونس حادثة مقتل "المنصف بالحاج يحيى من أبرز موظفي شركة تونس الجوية السابقين، وصاحب وكالة أسفار، عرفه الجميع بحيويته، وهو في 62 سنة من عمره، كان بعد ظهر السبت الماضي في شقته في ضاحية المنار الراقية، في عمارة مجاورة للمقر المركزي لـ"الشركة العقارية للبلاد التونسية"، تذكر ما فعلته الأمطار الغزيرة بعشرات السيارات في المنار قبل أعوام فنزل لينقل سيارة زوجته إلى موقع آمن بجانب العمارة، لم يكن يدري أن الطريق المعبدة والرصيف "المزفّت" (المسفلت) في حي راق مثل "المنار" يمكن أن يتحول فجأة إلى "بالوعة": غرقت رجلاه وفقد السيطرة على جسمه ثم داهمته قطع كبيرة من الطريق المعبدة التي جرفتها المياه، فمات على مرأى ومسمع من أجواره الذين فشلوا في انتشاله قبل أن يلفظ أنفاسه".

كل قصص الذين لقوا حتفهم في هذه الفيضانات متماثلة تقريبا، الاختلاف هو في الجنس والعمر والوظيفة، راجلون أو راكبون، في وسائل نقل خاصة أو عامة، الصغار منهم والشباب والكهول والشيوخ، جميعهم قضوا نحبهم بأشكال تتقارب وقائعها مما حصل للمنصف بالحاج يحيى، وجميعهم كانوا ضحية تحالف مشؤوم بين الطبيعة والثقافة، الطبيعة حين تخرج عن أطوارها المعهودة، وثقافة التهاون والسلبية وعدم تحمل المسؤولية وعدم المحاسبة...

لكن مهما كانت الاحتياطات والتدابير فإن مسألة الفيضانات والأعاصير لا يمكن أن تكون محل مزايدات سياسية كما أنه لا يمكن أيضا حصرها في الجمهورية التونسية... فالكثير من البلدان الإفريقية شهدت في المدة الأخيرة فيضانات غير مسبوقة مثل موريتانيا والسودان، بل لقد "شهد العام 2007 منذ بدايته حسب منظمات مختصة بالمناخ سلسلة من أحداث الطقس والتغيرات المناخية القياسية، وأجمع العلماء على أن الاحتباس الحراري هو السبب الرئيسي لتلك التغيرات.

وأعلنت الأمم المتحدة في أغسطس 2007 أن عدد الكوارث الطبيعية في الفترة بين العامين 2004 و2006 زاد من 200 كارثة إلى 400 في المتوسط سنويا، بما في ذلك موجات الحر والجفاف وحرائق الغابات والعواصف، وزادت الفيضانات من 60 إلى 100.

وأظهرت دراسة أعدها باحثون أوروبيون أن الاحتباس الحراري قد يتسبب في حدوث عواصف وأعاصير استوائية في البحر المتوسط، بعد أن كانت تتركز في شمالي المحيط الأطلسي وشمالي المحيط الهادئ" (مي غصوب: موقع الجزيرة نت)

فيما يخصني مسّني بعض الضّرّ من هذه الفيضانات. لكن أمام هول مأساة الآخرين من الذين فقدوا الحياة التي لا يمكن تعويضها، وأولئك الذين أتلفت سلعهم وبضائعهم وأرزاقهم بصورة يصعب تعويضها، فإن ما أصابني على سوئه يعتبر من باب أخف الأضرار.

هؤلاء وأولئك اجتاحهم الفيضان بمياهه المخلوطة بالوحل وما اقتلعه من حجارة وأعمدة ونبات، أما أنا لم يجتحني الفيضان بل استباح بيتي بحي الصحافة بالغزالة من محافظة أريانة... هذا فارق أول بين "اجتاح" و"استباح"... الفارق الجوهري الثاني هو أن قتلى الفيضان ومنكوبيه باغتهم الأمر وأخذهم غدرا وعلى حين غرّة، أما أنا فقد تنبأت بالفيضان وكنت في انتظار قدومه غير المبارك، وقد نشرت في أكثر من صحيفة تونسية أوائل شهر جويلية من هذا العام نداء للجهات المختصة لكي تبادر بحمايتنا، وهنا نص النداء كما نشر:

" يا وزارة التجهيز: حي الصحافة بالغزالة مهدّد بالغرق!

شارفت الأشغال التي بدأتها وزارة التجهيز لإقامة قناة ضخمة لاستقبال مياه الأمطار التي تنحدر من الجبل وتَشقُّ مجراها بمحاذاة حي الصحافة على نهايتها. كانت إقامة القناة بديلا عن الوادي الذي حفرته المياه وفق منطق الطبيعة، والذي كان يتجدّد وينظّف نفسه بنفسه عبر السنين خلال كل مواسم الأمطار.

المشكلة في القناة الجديدة مشكلتان.

الأولى: أن أشغال مدّ القناة ارتفعت بالتراب وطوّقت ديار الصحافيين التي تقع على حافة الوادي القديم الذي حلت محلّه القناة، بما يعنى أنها سدّت كل المنافذ التي كان يتسرّب منها الماء من حي الغزالة ليصبّ في الوادي، وهذا سيجعل من تلك الديار ومن الحي بأكمله عرضة للفيضان والغرق، خصوصا والقنوات الداخلية لتصريف المياه في وسط الحي تعاني هي الأخرى من حالة يرثى لها، وذلك ما لم تتخذ وزارة التجهيز إجراءات فورية عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل حلول الكارثة التي هي على الأبواب بحلول فصل الشتاء.

الثانية: لم تنته أشغال مدّ القناة بعدُ وإذا بالوحل والترسّبات والقاذورات تتراكم جوف القناة وترتفع شيئا فشيئا إلى درجة لم تُبِْقٍ سوى فسحة بسيطة لحركة الماء المخلوط هو الآخر بالوحل، بما يعني أن الوادي القديم سُدَّ بقناة صمّاء عوّضته، لن ينفذ مستقبلا فيها ومنها الماء ما بقيت الأمور على حالها، وهذا ستكون له عواقب وخيمة ومأساوية على الحي بأكمله.

هذا مع الملاحظة أن القناة الكبرى الأخرى التي سبق مدّها من طريق بنزرت إلى وسط الغزالة قد سُدّت تماما في نهايتها والسَدُّ سيشمل سريعا عموم القناة، إثر هطول مطر جدير باسمه!!

إنه نداء استغاثة من قبل الصحافيين الساكنين بحي الصحافة بالغزالة لوزارة التجهيز ولولاية أريانة ولبلدية رواد ولكل من يهمهم الأمر للتدخّل العاجل لتفادي حصول مصائب فردية وعامة". وختمت ذلك بتذييل: (الرجاء من الزملاء الصحافيين العمل على نشر هذا النداء في منابرهم وتبليغه بكل الوسائل للجهات المسؤولة لاتخاذ ما تراه مناسبا).

لكن لا إنقاذ لمن تنادي.

فقط زارنا مدير كبير من وزارة التجهيز وقدم لنا الكثير من الكلام والكلام ثم الكلام، وكأنه كان يدلي بتصريح تلفزي رسمي وانتهى الأمر عند هذا الحد... إلى أن حلت كارثة الفيضان الذي استباح بيتي وبيوت بعض جيراني، فغمر السيارة وترسب وحله بها وخرّب منها ما خرّب، وخاض في البيت إلى ما فوق الركب، متلفا ما طاله، مغيرا بجهالة على الرفوف السفلية من المكتبة وكأن بينه وبين الكتب والجرائد والمجلات والسجلات والوثائق عداوة قديمة، ومن بين الكتب التي أغار عليها الأعمال الكاملة للأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، فسارعت مغامرا والتقطت الكتاب وهو يطفو على الطمي وشرعت أقرأ بصوت مرتفع متحد قصيدة شاعر الشخروب التي تدور عن الطمأنينة "لست أخشى":

سقف بيتي حديد** ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح ** وانتحب يا شجر
واسبحي يا غيوم ** واهطلي بالمطر
واقصفي يا رعود ** لست أخشى خطر
باب قلبي حصين ** من صنوف الكدر
فاهجمي يا هموم ** في المسا والسحر
وازحفي يا نحوس ** بالشقا والضجر
وانزلي بالألوف ** يا خطوب البشر
وحليفي القضاء ** ورفيقي القدر
فاقدحي يا شرور ** حول بيتي الحفر

لست أخشى العذاب ** لست أخشى الضرر

المصدرhttp://www.alawan.com/index.php?option=com_content&task=view&id=2196&Itemid=23:

Aucun commentaire: